هذه المدونة لازالت قيد التطوير وشكلها كده هتفضل برضو قيد التطوير!

04 أغسطس 2010

وجع الناس.. ووجيعة الخطبة !

وقف خطيب الجمعة أعلى المنبر يزعق بصوت عال -لا مبرر له على الإطلاق- متحدثا عن فضل ذكر الله والعمل الطيب الصالح.. ولأن هذه كانت المرة العاشرة بعد المائة تقريبا التي أسمع فيها نفس العبارات والجمل بذات ترتيبها غصب عني.. سرحت في ألوان السجاد المفروش بها المسجد ثم وجدت نفسي -تلقائيا- أنظر إلى وجوه المصلين المستندين بظهورهم إلى حوائط المسجد وعمدانه، لأجد حالهم لا يفرق كثيرا عن حالي.. فمنهم من هو مشغول بتأمل النجفة الضخمة الموجودة في السقف ومنهم من راح يتابع ضوء الشمس النافذ عبر زجاج الشبابيك الملون في حين إختار فريق ثالث أن يأخذ تعسيلة على الماشي كده، فذهب في سبات عميق حتى لمحت أحد المصلين يلكز جاره في عنف بعد أن ارتفع صوت شخير هذا الأخير وكاد يطغى على صوت الخطيب!

كنت أتصور أن هذا هو حالي وحال المسجد المبتلي بهذا الخطيب "الفلتة" القادر -ببراعة- على أن يشتت تفكير كل جموع المصلين ويجعل كل واحد منهم يسرح في ملكوت خاص به، إلا أن الأمر بدا أنه هم عام لأني عندما انتقلت إلى مسجد آخر لم يختلف الحال كثيرا.. نفس الصوت الذي يعلو فجأة وينخفض فجأة دون أى مبرر ونفس حالة التوهان التي تستولي على معظم المصلين، وهو ما أكده لي كثير من الزملاء الذين تفرقت بهم السبل في أكثر من مسجد آخر -ويا للهول والفزع- في أكثر من مدينة ومحافظة!
نفس العبارات الطنانة العامة التي تتحدث عن الفضيلة والأخلاق دون توضيح كيف يمكن للمرء أن يصبح مؤمنا بحق متوكلا على الله وليس متواكلا كسولا، نفس الخطب التي تتحدث عن عذاب الآخرة وجحيمها دون أن تتحدث قط عن عذاب الدنيا ولهيبها الذي تعيشه الناس وتذوقه كل يوم في الميكروباص والشغل والبيت والمدرسة، نفس الدعاء الذي تختم به كل خطبة فيؤمن المصلون في آلية "آمين آمين"، وأكثرهم لا يسمع أساسا الدعاء الذي يقوله الخطيب بسبب خشونة صوته ورداءته.

لذا كان منطقيا جدا أن يخرج هذا الفتى "مطوته" ويتجه نحو خطيب مسجد الحسين لينتزع منه الميكروفون ويهدده بالسكين الذي في يده الأخرى لأن "أمي مرمية في مستشفى الدمرداش وماحدش بيعالجها وإنت هنا سايب وجع الناس وهمومهم وبتتكلم عن عذاب القبر".. لا أحد أكيد يرضى بأن يشهر أحدهم سلاحا في قلب المسجد ولا أن يهدد الخطيب بالقتل حتى ولو كان خطيبا سخيفا مملا يتجاهل مشاعر المصلين وآلامهم.. لكن برضه لا أحد يرضى أن تنفصل الخطبة والخطيب عن الناس بهذا الشكل المؤذي والمستفز.. لا يمكن أن نتهم "رد الفعل" بالتعصب و الجنون دون أن نبحث عن "الفعل" نفسه ونصفه بالصفات التي يستحقها.


عندما شرع الله صلاة الجمعة كان الهدف منه أن يجتمع المسلمون أسبوعيا حتى يتناقشوا ويتحاوروا في مشاكلهم لعلهم يصلون إلى حل لها، لكن صلاة الجمعة التي نصليها في جوامع مصر المحروسة هى "تقضية واجب" ليس أكثر.. خطيب غير مؤهل للصعود على المنبر محظور عليه الكلام في أى شيئ مهم، ومصلون مشغولون بآلاف الأفكار والمشكلات الحقيقية يصلون وراءه حتى يسقط عليهم الفرض وخلاص.

وإذا كان حادث مسجد الحسين هذا يبدو فرديا إلا إنه -حتما ولابد- قابل للتكرار، لأن وجع الناس في مصر لا ينتهي وتجاهل أولي الأمر من أول الحكومة وحتى خطباء المساجد لهذه الأوجاع لا ينتهي هو الآخر.

ولأن مستشفى الدمرداش ومئات المستشفيات الأخرى تعج بآلاف الحكايات المصرية الموصولة بالفقر والحاجة والبؤس، ولأن دعوة الخطيب للمصلين بأن يتقوا الله لن يكون لها أى صدى ما لم يتق أولو الأمر الله فينا فيصبح للمواطن في هذا البلد قيمة وكرامة ويفكوا ذلك الحصار المضروب حول الخطباء "المعلبين" الذين يتخرجون في المعاهد الأزهرية وجميعهم يحفظ خطبة واحدة عليه أن يلقيها على المصلين طوال حياته وحياتهم.

لأنه إذا كانت الحكومة تفعل هذا ظنا منها بأنها تتحكم في أدمغة المصليين لأن الحروف التي تخرج من الخطباء تكون مختومة بخاتمها، فهذا تصور خاطئ جدا لأنه إذا كان البعض "يرضى بالهم" فإن هناك آخرين لا يرضون به ويبحثون عما يجيب كل الأسئلة التي تدور في داخلهم بأكثر من وسيلة.. ومن هؤلاء ستجد من يلف حول نفسه حزاما ناسفا، ومنهم من خرج بمطواة على خطيب اليوم وربما يخرج بها على من هو أكبر منه في الغد.


إذا كنت تبحث عن الأسباب وراء التحول الإجتماعي الرهيب الذي تمر به مصر الآن، فتجد الأب يذبح إبنته والإبن يقتل والدته وشابا صغيرا لا يزيد عمره عن 18 عاما يتزعم عصابة لخطف و إغتصاب وقتل أطفال الشوارع.. إلى آخر هذه الأخبار المفزعة التي تمتلئ بها صفحات الحوادث الآن.. قل ما شئت عن تراجع دور المدرسة وتأثير الإعلام السلبي ولقمة العيش الصعبة التي تجعل رب الأسرة بعيدا عن أبنائه طوال اليوم، و..و..و.. وبعد كل هذا قل لي أرجوك عن التغير الذي يحدث فيك عندما تخرج من المسجد بعد أن تنتهي من صلاة الجمعة.. فهنا تكمن نصف الإجابة ونصف الحل..

تدوينة اليوم بالكامل هى أحد مقالات كتاب "الإنسان أصله جوافه" للكاتب محمد هشام عبيه والذي أنصحكم بقرائته..

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق